سورة غافر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


ولما كان الأمر بشغل هذين الوقتين أمراً بشغل غيرهما من باب الأولى، لأن أول النهار وقت الاشتغال بالأعمال والاهتمام بالابتداء والتمام، وآخره وقت التهيؤ للراحة والمقيل بالأكل والشرب وما يتبعهما، وكان ذلك موجباً للاشتغال عن أعداء الدين رأساً، وكان ذلك أمراً على النفوس شاقاً علله بما يقتضي المداومة على الأعمال والإعراض عنهم لأن خذلانهم أمر قد فرغ منه فقال معللاً للمداومة على الطاعة: {إن الذين يجادلون} أي يناصبون بالعداوة لنقل أهل هذا الدين عنه إلى ما هم عليه من الباطل، ولفت القول إلى الجلالة الدالة على نهاية العظمة تهويناً لشأنهم فقال: {في آيات الله} أي الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا {بغير سلطان} أي أمر مسلط ودليل مسلك {أتاهم إن} أي ما {في صدورهم} بصدودهم عن سواء السبيل، وآذن ذكر الصدور دون القلوب لعظم الكبر جداً بأنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها {إلا كبر} أي عن اتباع الحق مع إشراق ضيائه واعتلاء لألائه إرادة إطفائه أو إخفائه، والكبر إرادة التقدم والتعظم والرئاسة، وأن يكون مريد ذلك فوق كل أحد {ما هم ببالغيه} أي ببالغي مقتضاه من إبطال الدين تكبراً عن أن يكونوا تحت أوامره، لا يبلغون ذلك بوجه من الوجوه، ولا بد أن يظهر الدين بنصر الرسول ومن تبعه من المؤمنين على أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من أنواع الكافرين، ثم يبعثون فيكون أعداؤهم أسفل سافلين صغرة داخرين.
ولما ظهر من أول هذا الكلام وآخره تصريحاً وتلويحاً بما أفاده أسلوب كلام القادرين المصوغ لأعم من يمكن أن يخطر في البال أنه تعالى وصف نفسه في مطلع السورة بأنه غالب لكل شيء ولا يغلبه شيء وأن الذي بهم إنما هو إرادة أن يكونوا عالين غالبين، عنه قوله تعالى: {فاستعذ} أي اطلب العوذ {بالله} المحيط بكل شيء من شر كبرهم كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك كما أنجز له، ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي على ما له من البطون {هو} أي وحده {السميع} لكل ما يمكن أن يسمع. ولما كان السياق للعياذ من شياطين الإنس الذين لهم المكر الظاهر والباطن، ختم بقوله: {البصير} الصالح للبصر والبصيرة فيعم المحسوس والمعلوم، وختم آيتي الأعراف وفصلت المسبوقتين لنزغ الشيطان الذي هو وساوس وخطرات باطنة بالعليم.
ولما كان أعظم النظر في آية المجادلة المكررة من أول السورة إلى هنا إلى البعث وصيرورة العباد إلى الله بالحشر ليقع فيه الحكم الفصل، وتتحقق نصرة الأنبياء وأتباعهم يوم يقوم الأشهاد، دل على قدرته عليه بما هو كالتعليل لما نفى في آية المجادلة من بلوغهم لما قصدوا من الكبر، فقال مؤكداً تنزيلاً للمقر العالم منزلة الجاهل المعاند لمخالفة فعله لاعتقاده: {لخلق السماوات} أي خلق الله لها على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها {والأرض} على ما ترون من عجائبها وكثرة متاعها {أكبر} عند كل من يعقل من الخلق في الخلق {من خلق الناس} أي خلق الله لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما، فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه على عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم {ولكن أكثر الناس} وهم الذين ينكرون البعث وغيره مما يمكن أن تتعلق به القدرة وصح به السمع {لا يعلمون} أي لا علم لهم أصلاً، بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم، فهم لا يستدلون بذلك على القدرة على البعث كما أن البهائم ترى الظاهر فلا تدرك به الباطن، بل هم أنزل رتبة من البهائم، لأن هذا النحو من العلم في غاية الظهور فهو كالمحسوس، فمن توقف فيه كان جماداً.
ولما ثبت بهذا القياس الذي لا خفاء به لا دافع له ولا مطعن فيه أن القادر على خلق الكبير ابتداء قادر على تسوية الصغير إعادة، وثبت به أيضاً أن خلق الناس ليس مستنداً إلى طبائع السماوات والأرض وإلا لتساووا في العلم والجهل، والقدر والهيئة والشكل، لأن اقتضاء الطبائع لذلك على حد سواء لا تفاوت فيه، وهي لا اختيار لها، وكان من الناس من يقول: إن هذا الإيجاد إنما هو للطبائع، ومن هؤلاء فرعون الذي مضى في هذه السورة كثير من كشف عواره وإظهار عاره، دل على إبطاله بأن ذلك قول يلزمه التساوي فيما نشأ عن ذي الطبع لأن لا اختيار له ونحن نشاهد الأشياء مختلفة، فدل ذلك قطعاً على أنها غير مستندة إلى طبيعة بل إلى فاعل مختار، فكان التقدير بما أرشد إليه سياق الآية قطعاً مع ختمها بنفي العلم وعطف ما بعدها على غير مذكور: وأقلهم يعلمون، فثبت أن خالقهم الذي فاوت بينهم قادر مختار لا شريك له، فإنه ما يستوي العالم والجاهل: {وما يستوي} أي بوجه من الوجوه من حيث البصر {الأعمى والبصير} وذلك موجب للعلم بأن استناد المتخالفين ليس إلى الطبيعة، بل إلى فاعل مختار.
ولما ذكر الظلام والنور الحسيين، أتبعه المعنويين نشراً مشوشاً ليكشف قسما الظلام قسمي النور إشارة إلى أن المهتدي عزيز الوجود، كالذهب الإبريز بين النقود، فقال: {والذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ثبتت أو لا {وعملوا الصالحات} كذلك فكانوا محسنين {ولا المسيء} أي الثابت الإساءة الذي كفر وعمل الصالحات، ووقع التغاير في العطف لأن المراد- والله أعلم- نفس التساوي بين أفراد الأعمى وأفراد البصير والمحسن والمسيء، ولكنه لما كان في المخاطبين الغبي والذكي، عطف البصير بغير لا ليكون ظاهر ذلك نفي المساواة بين نوعي الأعمى والبصير، لأن نفي المساواة بين أفراد الأنواع دقيق، واقتصر على الواو في عطف {الذين آمنو} لأنه لا ينتظم أن يراد جعل الأعمى والبصير فريقاً والمؤمن الموصوف فريقاً، وينتفي التساوي بينهما لأنه لا لبس في أن المؤمنين الموصوفين كالبصير، وليس فيهم من يتوهم مساواته للأعمى، فكان من الجلي معرفة أن المراد نفي مساواة الأعمى للبصير ونفي مساواة المؤمن الموصوف للمسيء، وزيدت لا في المسيء وعبر فيه بالإفراد إشارة للفطن إلى أن المراد نفي التساوي بين أفراد كل نوع لأن ذلك أدل على القدرة، وأنها بالاختيار، وهذا بخلاف الظلمات في سورة فاطر لأنه لو تركت لا هناك لتوهم متوهم أن المنفي المساواة بين الأعمى والبصير وبين الظلمات، فيوجد حينئذ الطعن بأن الظلمات مساوية لهما باعتبار أن الظلمة منها كثيف جداً لا يمكن نفوذ البصر فيه، ومنها خفيف جداً يكون تسميته ظلاماً بالنسبة إلى النور الساطع، والآية من الاحتباك: ذكر عمل الصالحات أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والمسيء ثانياً دليلاً على المحسنين أولاً، وسره أنه ذكر الصلاح ترغيباً والإساءة ترهيباً.
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه في علمه إلا عدم تذكره لحسه حتى في نفسه قال تعالى: {قليلاً ما يتذكرون} أي المجادلون أو أيها المجادلون أو الناس لأن المتذكر غاية التذكر- بما دل عليه الإظهار- منكم قليل- على قراءة الكوفيين بالخطاب لأنه أقوى في التبكيت، وأدل على الغضب.
ولما ثبت بهذا كله تمام القدرة وانتفى ما توهمه من لا بصر له من الطبائع ثبت قطعاً قوله: {إن الساعة} أي القيامة التي يجادله فيها المجادلون {لآتية} وعزتي! للحكم بالعدل في المقارنة بين المسيء والمحسن لأنه لا يسوغ في الحكمة عند أحد من الخلق أن يساوي أحد بين محسن عبيده ومسيئهم، فكيف يظن ذلك بأحكم الحاكمين الذي نشاهده يميت المسيء وهو في غاية النعمة والمعصية، والمحسن وهو في غاية البلاء والطاعة، والمظلوم قبل أن ينتصف من الظالم، ولهذا الأمر الظاهر قال: {لا ريب فيها} أي لا شك في إتيانها بوجه من الوجوه، لأفضي فيها بالعدل فأدخل فيها ناساً دار رحمتي، وآخرين نقمتي.
ولما وصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً، نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى: {ولكن أكثر الناس} أي بما فيهم من النوس وهو الاضطراب، وراعى معنى الأكثر فجمع لأن الجمع أدل على المراد وأقعد في التبكيت: {لا يؤمنون} أي لا يجعلون المخبر لهم بإتيانها آمناً من التكذيب مع وضوح علمها لديهم، وما ذاك إلا لعناد بعضهم وقصور نظر الباقين على الحس.
ولما كان التقدير: فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له، والمسيء النار خذلاناً وإهانة له، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقال لعباده كلهم: آمنوا لأسلمكم من غوائل تلك الدار، عطف عليه قوله: {وقال ربكم} أي المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة: {ادعوني} أي استجيبوا لي بأن تعبدوني وحدي فتسألوني ما وعدتكم به من النصرة على وجه العبادة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» فقد حصر الدعاء في العبادة سواء كانت بدعاء أو صلاة أو غيرهما، فمن كان عابداً خاضعاً لله تعالى بسؤال أو غيره كانت عبادته دعاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: وحدوني اغفر لكم. وعن الثوري أنه قيل له: ادع، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء: {أستجب} أي أوجد الإجابة إيجاداً عظيماً كأنه ممن يطلب ذلك بغاية الرغبة فيه {لكم} في الدنيا أي بإيجاد ما دعوتم به، أو كشف مثله من الضر، أو إدخاره في الآخرة، ليظهر الفرق بين من له الدعوة ومن ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تتكلوا على ما سبق به الوعد فتتركوا الدعاء فتتركوا العبادة التي الدعاء مخها، فكل ميسر لما خلق له، قال القشيري، وقيل: الدعاء مفتاح الإجابة، وأسنانه لقمة الحلال- انتهى- والآية بمعنى آية البقرة {أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} [آية: 186].
ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر، فكان كأنه قيل: ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين، علله ترهيباً في طيه ترغيب بقوله: {إن الذين يستكبرون} أي يوجدون الكبر، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله: {عن عبادتي} أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء {سيدخلون} بوعد لا خلف فيه {جهنم} فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة {داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين، فالآية من الاحتباك: ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً. ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب، في دار ثواب وعقاب، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عليه مع الإبلاغ في الإحسان إليهم {الله} أي المحيط بصفات الكمال {الذي جعل لكم} لا غيره {الّيل} أي مظلماً {لتسكنوا فيه} راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة {والنهار مبصراً} لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى، فالآية من الاحتباك: حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل: للراحة لمن أرادها، والعبادة لمن اعتمدها واستزادها.
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً: {إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {لذو الفضل} أي عظيم جداً باختياره {على الناس} أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع. ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله، وكان الاسم قد يراد بعض مدلومه، وكان المراد هنا التعميم، أظهر للإفهام إرادة ذلك، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال: {ولكن أكثر الناس} أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب {لا يشكرون} فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً، أو يعملون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس، وهو كل من برز من الوجود، وبهم ثانياً الجن والإنس- والله أعلم.


ولما ثبت بآية الخافقين وآية الملوين ثبوتاً لا شك فيه أصلاً شمول القدرة بالاختيار، قال معظماً بأداة البعد وميم الجمع: {ذلكم} أي أيها المخاطبون!- الواحد القهار العظيم الشأن الذي علم بما ذكر من أفعاله أنه لا يشاركه أحد {الله} أي الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه أحد ولذلك قال: {ربكم} أي المربى لكم والمحسن إليكم بقدرته واختياره المتفرد بربوبيتكم لا رب لكم سواه. ولما كان في سياق الامتنان بالنعم للدلالة على الساعة التي ينكرونها ويجادلون في أمرها، قدم الخلق على التهليل فقال: {خالق كل شيء} أي بما ثبت من تمام قدرته بإبداع الخافقين ثائبين والملوين متعاقبين دائبين، ولا مانع له من إعادة الثقلين لأنه {لا إله إلا الله} بل كان ذلك واجباً في الحكمة، لأن المنعم عليهم انقسموا إلى شاكر وكافر، فوجب في الحكمة إقامة الساعة للفصل بينهم، وجاء ذلك على ترتيب مطلع السورة، فإن العزيز ناظر إلى كمال القدرة على الإيجاد والإعدام، والعليم هو المتوحد بكمال الذات، فإن إحاطة العلم تستلزم كل كمال، والقدرة قد لا تستلزم العلم كما للحيوانات العجم، وهذا بخلاف ما مضى في آية الأنعام، فإن السياق هناك لإنكار الشرك وإثبات الوحدانية بما دل عليها من عموم الخلق طبق ما مضى أيضاً في مطلعها.
ولما أنتجت هذه الأخبار- التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له- الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال، سبب عنها قوله منكراً مبكتاً: {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه {تؤفكون} أي تقلبون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة التي الطعن فيها طعن في الإلهية التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه، وذلك مؤدٍ إلى سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد المحسوس، وفي المعقول المركوز في جميع النفوس.
ولما كشف هذا السياق عن أن هذا الصرف أمر لا يقدم عليه عاقل، كان كأنه قيل: هل وقع لأحد غير هؤلاء مثل هذا؟ فأجيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الصرف الغريب البعيد عن مناهيج العقلاء {يؤفك} أي يصرف صرف سيئاً- بناه للمفعول إشارة إلى تمام قدرته عليه بكل سبب كان، ولأنه المتعجب منه {الذين كانوا} مطبوعين على أنهم {بآيات الله} أي ذي الجلال والجمال {يجحدون} أي ينكرون عناداً ومكابرة، فدل هذا على أن كل من تكبر عن حق فأنكره مع علمه به عوقب بمسخ القلب وعكس الفهم، فصار له الصرف عن وجوه الدلائل إلى أقفائها ديدناً بحيث يموت كافراً إن لم يتداركه الله برحمة منه.
ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته، واضح في العقول معرفته، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحوداً، فقال دالاً بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك، بما حصل فيه من الاختلاف، فقال: {الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء {الذي جعل} أي وحده {لكم الأرض} أي مع كونها فراشاً ممهداً {قراراً} مع كونها في غاية الثقل، ولا ممسك لها سوى قدرته {والسماء} على علوها وسعتها مع كونها افلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار {بناء} مظلة كالقبة من غير عماد حامل، ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر، فالآية من الاحتباك: ذكر القرار أولاً دليلاً على الدوران ثانياً، والبناء ثانياً دليلاً على الفراش أولاً.
ولما ذكر المسكين ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها، ولا تشبه واحدة منها الأخرى، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال: {وصوركم} والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع {فأحسن صوركم} على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسدوا انطباع تصويرها إليه، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك.
ولما ذكر المسكن والساكن، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال: {ورزقكم من الطيبات} الشهية الملائمة للطبائع النافعة على وجه لا احتياج معه بوجه، فلا دليل أدل على تمام العلم وشمول القدرة ووجود الاختيار من هذا التدبير في حفظ المسكن والسقف وتدبير ما به البقاء على وجه يكفي الساكن من جميع الوجوه على مر السنين وتعاقب الأزمان، وبث من الساكن- مع أنه قطعة يسيرة جداً من أديم الأرض- أنسالاً شعبهم شعباً فرعها إلى فروع لا تسعها الأرض، فدبر بحكمته وسعة علمه وقدرته تدبيراً وسع لهم به الأرض، وعمهم به الرزق، كما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن الحسن أنه قال: لما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام: إن الأرض لا تسعهم، قال: فإني جاعل موتاً، قالوا: إذا لا يهنأهم العيش، قال: فإني جاعل أملاً.
ولما دل هذا قطعاً على التفرد، قال على وجه الإنتاج: {ذلكم} أي الرفيع الدرجات {الله} أي المالك لجميع الملك، ودلهم على ما مضى بتربيتهم وما فيها من بديع الصنائع فقال: {ربكم} أي لا غيره، ولما أفاد هذا الدليل تربية لا مثل لها، دالة على إحاطة العلم وتمام القدرة على وجه لا حاجة معه مع حسنه وثباته تسبب عنه ولا بد قوله: {فتبارك} أي ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض {الله} أي المختص بالكمال، ورقى الخطاب وعظم إيضاحاً للدلالة فقال: {رب العالمين} كلهم أنتم وغيركم، ثم دل على ما أفاده الدليل معللاً بقوله: {هو} أي وحده {الحي} وكل ما عداه لا حياة له، لأنه ليس له من ذاته إلا العدم، فأنتج ذلك قطعاً قوله: {لا إله إلا هو} فتسبب عنه قوله: {فادعوه} أي وحده بالقول والفعل على وجه العبادة، وذلك معنى {مخلصين له الدين} أي من كل شرك جلي أو خفي.
ولما أمر بقصر الهمم عليه، علله بقوله: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وأظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن له من الصفات العلي ما لا ينحصر: {لله} أي المسمى بهذا الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى لذاته. ولما كان هذا الوجود على ما هو عليه من النظام، وبديع الارتسام، دالاً دلالة قطعية على الحمد، قال واصفاً بما هو كالعلة للعلم بمضمون الخبر: {رب العالمين} أي الذي رباهم هذه التربية فإنه لا يكون إلا كذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من قال {لا إله إلا الله} فليقل على أثرها {الحمد لله رب العالمين}.


ولما أمر سبحانه بما دل على استحقاقه إياه، أنتج قطعاً قوله: {قل} أي لهؤلاء الذين يجادلونك في التوحيد والبعث مقابلاً لإنكارهم بالتأكيد: {إني نهيت} أي ممن لا ناهي غيره، نهياً عاماً ببراهين العقل، ونهياً خاصاً بأدلة النقل {أن أعبد} ولما أهلوهم لأعلى المقامات، عبر عنهم إرخاء للعنان بقوله: {الذين تدعون} أي يؤهلونهم لأن تدعوهم، ودل على سفولهم بقوله تعالى: {من دون الله} أي الذي له الكمال كله، ودل على أنه ما كان متعبداً قبل البعث بشرع أحد بقوله: {لما جاءني البينات} أي الحجج الواضحة جداً من أدلة العقل والنقل ظاهرة، ولفت القول إلى صفة الإحسان تنبيهاً على أنه كما يستحق الإفراد بالعبادة لذاته يستحقها شكراً لإحسانه فقال: {من ربي} أي المربي لي تربية خاصة هي أعلى من تربية كل مخلوق سواي، فلذلك أنا أعبده عبادة تفوق عبادة كل عابد.
ولما أخبر بما يتخلى عنه، أتبعه الأمر بما يتحلى به فقال: {وأُمرت أن أسلم} أي بأن أجدد إسلام كليتي في كل وقت على سبيل الدوام {لرب العالمين} لأن كل ما سواه مربوب فالإقبال عليه خسار، وإذا نهى هو صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر بهذا لكون الآمر والناهي ربه لأنه رب كل شيء، كان غيره مشاركاً له في ذلك لا محالة.
ولما قامت الأدلة وسطعت الحجج على أنه سبحانه رب العالمين الذين من جملتهم المخاطبون، ولا حكم للطبيعة ولا غيرها، أتبع ذلك آية أخرى في أنفسهم هي أظهر مما مضى، فوصل به على طريق العلة لمشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي في التي قبلها قوله تعالى: {هو} لا غيره {الذي} ولما كان الوصف بالتربية ماضياً، عبر عنه به فقال: {خلقكم من تراب} أي أصلكم وأكلكم التي تربى به أجسادكم {ثم من نطفة} من مني يمنى {ثم من علقة} مباعداً حالها لحال النطفة كما كان النطفة مباعداً لحال التراب، {ثم} بعد أن جرت شؤون أخرى {يخرجكم} أي يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء {طفلاً} لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً، ثم يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال {لتبلغوا أشدكم ثم} يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول {لتكونوا شيوخاً} ضعفاء غرباء، قد مات أقرانكم، ووهت أركانكم، فصرتم تخشون كل أحد.
ولما كان هذا مفهماً لأنه حال الكل، بين أنه ما أريد به إلا البعض لأن المخاطب الجنس، وهو يتناول البعض كما يتناول الكل فقال: {ومنكم من يتوفى} بقبض روحه وجميع معانيه. ولما كان الموت ليس مستغرقاً للزمن الذي بين السنين وإنما هو في لحظة يسيرة مما بينهما، أدخل الجار على الظرف فقال: {من قبل} أي قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية.
ولما كان المعنى: لتتفاوت أعماركم وأحوالكم وأعمالكم، عطف عليه قوله: {ولتبلغوا} أي كل واحد منكم {أجلاً مسمى} أي له سماه الملك الذي وكل به في بطن أمه عن إذننا وبأمرنا الذي قدرناه في الأزل، فلا يتعداه مرة، ولا بمقدار ذرة فيتجدد للملائكة إيمان في كل زمان.
ولما كانت هذه الأمور مقطوعاً بها عند من يعلمها، وغير مترجاة عند من يجهلها، فإنه لا وصول للآدمي بحيلة ولا فكر إلى شيء منها، فعبر فيها اللام، وكان التوصل بالتفكر فيها والتدبر إلى معرفة أن الإله واحد في موضع الرجاء للعاقل قال: {ولعلكم تعقلون} أي فتعلموا بالمفاوتة بين الناس فيها ببراهين المشاهدة بالتقليب في أطوار الخلقة وأدوار الأسنان، وإرجاع أواخر الأحكام على أوائلها أن فاعل ذلك قادر مختار حكيم قهار، لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء.
ولما نظم سبحانه هذا الدليل في صنع الآدمي من التراب، وختمه بأن دلالته على البعث- بإجراء سنته في إرجاع أواخر الأمور على أوائلها وغير ذلك- لا يحتاج إلى غير العقل، أنتج عنه قوله: {هو} لا غيره {الذي يحيي ويميت} كما تشاهدونه في أنفسكم وكما مضى لكم الإشارة إليه بخلق السماوات والأرض، فإن من خلقهما خلق ما بينهما من الآجال المضروبة باختلاف الليل والنهار والشهور والأعوام لبلوغ الأفلاك مواضعها، ثم رجوعها عوداً على بدء مثل تطوير الإنسان بعد الترابية من النطفة إلى العلقة إلى ما فوقها، ثم رجوعه في مدارك هبوطه إلى أن تصير تراباً كما كان، فليست النهاية بأبعد من البداية.
ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة نافذة، سبب عن ذلك قوله معبراً بالقضاء: {فإذا قضى أمراً} أي أراد أيّ أمر كان من القيامة أو غيرها {فإنما يقول له كن} ولما كانت {إذا} شرطية أجابها في قراءة ابن عامر بقوله: {فيكون} وعطفها في قراءة غيره على {كن} بالنظر إلى معناه، أو يكون خبراً لمبتدأ أي فهو يكون، وعبر بالمضارع تصويراً للحال وإعلاماً بالتجدد عند كل قضاء، وقد مضى في سورة البقرة إشباع الكلام في توجيه قراءة ابن عامر بما تبين به أنها أشد من قراءة غيره.
ولما علم من هذا أنه لا كلفة عليه في شيء من الأشياء بهذه الأمور المشاهدة في أنفسهم وفي الآفاق، أنتج التعجب من حالهم لمن له الفهم الثاقب والبصيرة الوقادة، وجعل ذلك آياته الباهرة وقدرته القاهرة الظاهرة، فلذلك قال لافتاً الخطاب إلى أعلى الخلق لأن ذم الجدال بالباطل من أجل مقصود هذه السورة: {ألم تر} أي يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً، وبين بعدهم بأداة النهاية فقال: {إلى الذين يجادلون} أي بالباطل، ونبه على ما في هذه الآيات من عظمته التي لا نهاية لها بإعادة الاسم الجامع فقال: {في آيات الله} أي الملك الأعظم {أنَّى} أي وكيف ومن أي وجه {يُصرفون} عن الآيات الحقة الواضحة التي سبقت بالفطرة الأولى إلى جذور قلوبهم، فلا حجة يوردون ولا عذاب عن أنفسهم يردون، لأنه سبحانه استاقهم- كما قال ابن برجان- بسلاسل قهره المصوغة من خالص عزماتهم وعزائهم إرادتهم من حقيقة ذواتهم إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة- فصل ما جادلوا فيه واصفاً لهم بما يزيد في التعجيب من شدة جهلهم وتعاظم عماهم فقال: {الذين كذبوا} وحذف المفعول إشارة إلى عموم التكذيب: {بالكتاب} أي بسببه في جميع ما له من الشؤون التي تفوت الحصر والعظمة في كل أمر كان أشير بأداة الكمال إلى أنه لكماله كأنه لا كتاب غيره لأن من سمعه فكأنما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لإعجازه، فمن كذب بحرف منه فقد كذب بكل كتاب الله.
ولما كان التذكيب به تكذيباً بجميع الرسالات الإلهية، أكد عظمته بذلك وبالإضافة إلى مظهر العظمة، تحذيراً للمكذبين من سطواته، وتذكيراً لهم بأن العمل مع الرسول عمل مع من أرسله، فلذا لفت الكلام على الاسم الجامع لصفتي الجلال والإكرام فقال تعال: {وبما أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة {به رسلنا} من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره، وهو بحيث لا يحاط بكنه جلاله وعظمه حاله، ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى: {فسوف يعلمون} أي بوعيد صادق لا خلف فيه، ما يحل بهم من سطوتنا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6